سورة الممتحنة - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الممتحنة)


        


اختلف الناس في هؤلاء الذين لم ينه عنهم أن يبروا من هم. فقال مجاهد: هم المؤمنون من أهل مكة الذين آمنوا ولم يهاجروا وكانوا لذلك في رتبة سوء لتركهم فرض الهجرة وقال آخرون: أراد المؤمنين التاركين للهجرة كانوا من أهل مكة ومن غيرها. وقال الحسن وأبو صالح: أراد خزاعة وبني الحارث بن كعب، وقبائل منا لعرب كفار إلا أنهم كانوا مظاهرين للنبي صلى الله عليه وسلم محبين فيه وفي ظهوره، ومنهم كنانة وبنو الحارث بن عبد مناة ومزينة، وقال قوم: أراد من كفار قريش من لم يقاتل: ولا أخرج ولا أظهر سوءاً، وعلى هذين القولين فالآية منسوخة بالقتال، وقال عبد الله بن الزبير: أراد النساء والصبيان من الكفرة، وقال إن الآية نزلت بسبب أم أسماء حين استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في برها وصلتها فأذن لها، وكانت المرأة خالتها فيما روي فسمتها في حديثها أماً، وقال أبو جعفر بن النحاس والثعلبي: أراد المستضعفين من المؤمنين الذين لم يستطيعوا الهجرة، وهذا قول ضعيف. وقال مرة الهمداني وعطية العوفي: نزلت في قوم من بني هاشم، منهم العباس، قال وقتادة نسختها {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5]. وقوله تعالى: {أن تبروهم} بدل، وهذا هو بدل الاشتمال، والإقساط: العدل، و{ظاهروا} معناه: عاونوا، و{الذين قاتلوا في الدين وأخرجوا} هم مردة قريش وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات} الآية نزلت إثر صلح الحديبية، وذلك أن الصلح تضمن أن يرد المؤمنون إلى الكفار كل من جاء مسلماً من رجل وامرأة فنقض الله تعالى من ذلك أمر النساء بهذه الآية، وحكم أن المهاجرة لا ترد إلى الكفار بل تبقى تستبرئ وتتزوج ويعطى زوجها الكافر الصداق الذي أنفق، وأمر أيضاً المؤمنين بطلب صداق من فرت امرأته من المؤمنين، وحكم تعالى بهذا في النازلة وسماهم مؤمنات قبل أن يتيقن ذلك إذ هو ظاهر أمرهن، و{مهاجرات} نصب على الحال، {فامتحنوهن} معناه: جربوهن واستخبروا حقيقة ما عندهن. واختلف الناس في هذا الامتحان كيف هو، فقال ابن عباس وقتادة ومجاهد وعكرمة: كان بأن تستحلف المرأة أنها ما هاجرت لبغض زوجها ولا لجريرة جرت ولا لسبب من أعراض الدنيا سوى حب الله ورسوله والدار الآخرة. قال ابن عباس: الامتحان أن تطلب بأن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا فعلت ذلك لم ترد، فقال فريق منهم عائشة أم المؤمنين: الامتحان هو أن تعرض عليها الشروط التي في الآية بعد هذا من ترك الزنا والسرقة والبهتان والعصيان، فإذا أقرت بذلك فهو امتحان، وقيل: إن هذه الآية نزلت في أميمة بنت بشر امرأة حسان بن الدحداحة وفي كتاب الثعلبي أنها نزلت في سبيعة بنت الحارث، وقوله تعالى: {الله أعلم بإيمانهم} إشارة إلى الاسترابة ببعضهن وحض على امتحانهن، وذكر تعالى العلة في أن لا يرد النساء إلى الكفار وهي امتناع الوطء وحرمته، وقرأ طلحة: {لا هن يحللن لهم}.


أمر الله تعالى أن يؤتى الكفار مهور نسائهم اللاتي هاجرن مؤمنات ورفع الجناح في أن يتزوجن بصدقات هي أجورهن، وأمر المسلمين بفراق الكافرات وأن لا يمسكوا بعصمهن، فقيل: الآيات في عابدات الأوثان ومن لا يجوز نكاحها، ابتداء، وقيل: هي عامة نسخ منها نساء أهل الكتاب، والعصم: جمع عصمة: وهي أسباب الصحبة والبقاء في الزوجية، وكذلك العصمة في كل شيء، السبب الذي يعتصم به، ويعتمد عليه، وقرأ جمهور السبعة والناس: {تُمسِكوا} بضم التاء وكسر السين وتخفيفها من أمسك، وقرأ أبو عمرو وحده وابن جبير ومجاهد والأعرج والحسن بخلاف {ولا تمسّكوا} من مسك، بالشد في السين، وقرأ الحسن وابن أبي ليلى وابن عامر في رواية عبد المجيد: {تَمَسَّكوا} بفتح التاء والميم، وفتح السين وشدها، وقرأ الحسن: {تَمْسِكوا} بفتح التاء وسكون الميم وكسر السين مخففة.
ورأيت لأبي علي الفارسي أنه قال: سمعت الفقيه أبا الحسن الكرخي يقول في تفسير قوله تعالى: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر}، إنه في الرجال والنساء، فقلت له: النحويون لا يرون هذا إلا في النساء، لأن كوافر: جمع كافرة، فقال وايش يمنع من هذا أليس الناس يقولون: طائفة كافرة، وفرقة كافرة، فبهت، وقلت هذا تأييد، وأمر تعالى أن يسأل أيضاً الكافرون أن يدفعوا الصدقات التي أعطاها المؤمنون لمن فر من أزواجهم إلى الكفار، وقرر الحكم بذلك على الجميع، فروي عن ابن شهاب أن قريشاً قالت: نحن لا نرضى هذا الحكم ولا نلتزمه ولا ندفع لأحد صداقاً فنزلت بسبب ذلك هذه الآية الأخرى: {وإن فاتكم} الآية، فأمر الله تعالى المؤمنين أن يدفعوا إلى من فرت زوجته ففاتت بنفسها إلى الكفار صداقه الذي أنفق، قال ابن عباس في كتاب الثعلبي: خمس نسوة من نساء المهاجرين رجعن عن الإسلام ولحقن بالمشركين: أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شداد، وفاطمة بنت أبي أمية أخت أم سلمة، كانت تحت عمر بن الخطاب، وعبدة بنت عبد العزى كانت تحت هشام بن العاص، وأم كلثوم بنت جرول كانت تحت عمر، فأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم مهور نسائهم من الغنيمة. واختلف الناس في أي مال يدفع إليه الصداق، فقال محمد بن شهاب الزهري: يدفع إليه من الصدقات التي كانت تدفع إلى الكفار بسبب من هاجر من أزواجهم، وأزال الله تعالى دفعها إليهم حين لم يرضوا حكمه حسبما ذكرناه، وهذا قول صحيح يقتضيه قوله تعالى: {فعاقبتم} وسنبين ذلك في تفسير اللفظة إن شاء الله تعالى. وقال مجاهد وقتادة: يدفع إليه من غنائم المغازي، وقال هؤلاء التعقيب بالغزو والمغنم وتأولوا اللفظة بهذا المعنى، وقال الزهري أيضاً: يدفع إليه من اي وجوه الفيء أمكن، والعاقبة في هذه الآية، ليست بمعنى مجازاة السوء بالسوء لكنها بمعنى فصرتم منهم إلى الحال التي صاروا إليها منكم وذلك بأن يفوت إليكم شيء من أزواجكم، وهكذا هو التعقيب على الجمل والدواب أن يركب هذا عقبة ويركب هذا عقبة.
وقرأ ابن مسعود: {وإن فاتكم أحد من أزواجكم} ويقال عاقب الرجل صاحبه في كذا، أي جاء فعل كل واحد منهما بعقب فعل الآخر، ومنه قول الشاعر [الكميت]:
وحاردت النكد الجلاد ولم يكن *** لعقبة قدر المستعيرين معقب
ويقال: عقّب بشد القاف، أي أصاب عقبى، والتعقيب: غزو إثر غزو، ويقال عقَب بتخفيفها، ويقال: عقِب بكسرها كل ذلك بمعنى: يقرب بعضه من بعض وبجميع ذلك قرئ، قرأ جمهور الناس: {عاقبتم} وقرأ الأعرج ومجاهد والزهري وعكرمة وحميد: {عقَّبتم} بالتشديد في القاف، وقرأ الأعرج أيضاً وأبو حيوة والزهري أيضاً: {عقَبتم} بفتح القاف خفيفة، وقرأ النخعي والزهري أيضاً: {عقِبتم} بكسر القاف حكمها، ثم ندب تعالى إلى التقوى وأوجبها، وذكر العلة التي بها يجب التقوى وهي الإيمان بالله والتصديق بوحدانيته وصفاته وعقابه وإنعامه.


هذه بيعة النساء في ثاني يوم الفتح على جبل الصفا وهي كانت في المعنى بيعة الرجال قبل فرض القتال، وسماهم {المؤمنات} بحسب الظاهر من أمرهن، ورفض الاشتراك هو محض الإيمان، وقتل الأولاد وهو من خوف الفقر، وكانت العرب تفعل ذلك. وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن: {يُقَتِّلن} بضم الياء وفتح القاف وكسر التاء المشددة، والإتيان بالبهتان، قال أكثر المفسرين معناه أن تنسب إلى زوجها ولداً ليس هو له واللفظ أعم من هذا التخصيص، فإن الفرية بالقول على أحد من الناس بعضيهة لمن هذا، وإن الكذب فيما ائتمن فيه من الحمل والحيض لفرية بهتان، وبعض أقوى من بعض وذلك أن بعض الناس قال: {بين أيديهن} يراد به اللسان والفم في الكلام والقبلة ونحوه، وبين الأرجل يراد به الفروج وولد الإلحاق ونحوه، والمعروف الذي نهي عن العصيان فيه، قال أنس وابن عباس، وزيد بن أسلم: هو النوح، وشق الجيوب ووشم الوجوه ووصل الشعر وغير ذلك من أوامر الشريعة، فرضها وندبها. ويروى أن جماعة نساء فيهن هند بنت عتبة بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليهن الآي، فلما قررهن على أن لا يشركن قالت هند: وكيف نطمع أن تقبل منا ما لم تقبله من الرجال؟ بمعنى أن هذا بين لزومه، فلما وقف على السرقة، قالت: والله إني لأصيب الهنة من مال أبي سفيان لا أدري أيحل لي ذلك، فقال أبو سفيان: ذلك لك حلال فيما مضى وبقي، وقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلي وولدك بالمعروف».
وقدر تكرر هذا المعنى في الحديث الآخر قولها إن أبا سفيان رجل مسيك فلما وقف على الزنا قالت: يا رسول الله وهل تزني الحرة؟ قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ما تزني الحرة»، وذلك أن الزنا في قريش إنما كان في الإماء في أغلب الأمر، وفيما تعرف مثل هند وإلا فالبغايا قد كن أحراراً، فلما وقف على قتل الأولاد، قالت: نحن ربيناهم صغاراً وقتلتهم أنت ببدر كباراً، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وقف على العصيان بالمعروف، قالت: ما جلسنا هذا المجلس وفي أنفسنا أن نعصيك، ويروى أن جماعة نساء بايعن النبي صلى الله عليه وسلم فقلن: يا رسول الله نبايعك على كذا وكذا الآية، فلما فرغن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فيما استطعتن وأطلقتن»، فقلن الله ورسوله أرحم بنا منا بأنفسنا.
وقوله تعالى: {فبايعهن} امض معهن صفقة الإيمان بأن يعطين ذلك من أنفسهن ويعطين عليه الجنة، واختلفت هيئات مبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء بعد الإجماع على أنه لم تمس يده يد امرأة أجنبية قط، فروي عن عائشة وغيرها أنه بايع باللسان قولاً، وقال: «إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة»، وقالت أسماء بنت يزيد: كنت في النسوة المبايعات فقلت: يا رسول الله ابسط يدك نبايعك، فقال لي عليه السلام: «إني لا أصافح النساء لكن آخذ عليهن ما أخذ الله عليهن»، وذكر النقاش حديثاً أن النبي صلى الله عليه وسلم مد يده من خارج بيت ومد نساء من الأنصار أيديهن من داخله فبايعهن وما قدمته أثبت، وروي عن الشعبي أنه لف ثوباً كثيفاً قطرياً على يده وجاء نسوة فلمسن يده كذلك، وروي عن الكلبي: أنه قدم عمر بن الخطاب فلمس نساء يده وهو خارج من بيت وهن فيه بحيث لا يراهن، وذكر النقاش وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم بايعه النساء على الصفا بمكة وعمر بن الخطاب يصافحهن، وروي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ورفعه النقاش عن ابن عباس وعن عروة بن مسعود الثقفي: أنه عليه السلام غمس يده في إناء فيه ماء ثم دفعه إلى النساء فغمسن أيديهن فيه. ثم أمره تعالى بالاستغفار لهن ورجاهن في غفرانه ورحمته بقوله: {إن الله غفور رحيم} وقوله تعالى: {قوماً غضب الله عليهم} قال ابن زيد والحسن ومنذر بن سعيد هم اليهود لأن غضب الله قد صار عرفاً لهم، وقال ابن عباس: هم في هذه الآية كفار قريش لأن كل كافر فعليه غضب من الله لا يرد بذلك ثبوت الغضب على اليهود.
قال القاضي أبو محمد: ولا سيما في المردة ككفار قريش إذ أعمالهم مغضبة ليست بمجرد ضلال بل فيها شرارات مقصودة، وفي الكلام في التشبيه الذي في قوله: {كما يئس} يتبين الاحتياج إلى هذا الخلاف وذلك أن اليأس من الآخرة إما أن يكون بالتكذيب بها، وهذا هو يأس كفار مكة، قال معنى قوله: {كما يئس الكفار} كما يئس الكافر من صاحب قبر لأنه إذا مات له حميم قال: هذا آخر العهد به لن يبعث أبداً، فمعنى الآية: أن اعتقاد أهل مكة في الآخرة كاعتقاد الكافر في البعث ولقاء موتاه، وهذا هو تأويل ابن عباس والحسن وقتادة في معنى قوله تعالى: {كما يئس الكفار}، ومن قال إن القوم المشار إليهم هم اليهود، قال معنى قوله: {يئس الكفار} أي كما يئس الكافر من الرحمة إذا مات وكان صاحب قبر، وذلك أنه يروى أن الكافر إذا كان في قبره عرض عليه مقعده في الجنة أن لو كان مؤمناً ثم يعرض عليه مقعده من النار الذي يصير إليه فهو يائس من رحمة الله مع علمه بها ويقينه، وهذا تأويل مجاهد وابن جبير وابن زيد في قوله: {كما يئس الكفار} فمعنى الآية: أن يأس اليهود من رحمة الله في الآخرة مع علمهم بها كيأس ذلك الكافر في قبره وذلك لأنهم قد رين على قلوبهم وحملهم الحسد على ترك الإيمان وغلب على ظنونهم أنهم معذبون، وهذه كانت صفة كثير من معاصري النبي صلى الله عليه وسلم، و{من} في قوله {من أصحاب} على القول الأول هي لابتداء الغاية، وفي القول الثاني هي لبيان الجنس والتبعيض يتوجهان فيها وبيان الجنس أظهر.
نجز تفسير سورة الممتحنة والحمد لله على ذلك.

1 | 2